الأربعاء، شوال ٠٣، ١٤٢٧

المملكة

كنت وأصدقائي صغارا عندما كنا نصنع ألعابا لا تكلفنا المال.. في حي شبه شعبي, سكانه أساسا من الطبقة العاملة.. معلمين وأساتذة, وسائقي باصات المؤسسات الكبرى.. وبعض من حصلوا على البيوت بالوساطة.. السكان مزيج من الأشياء المتناقضة: جارنا رجل في السبعين لكنه ما زال يحتفظ ببعض أناقته وبذلاته القديمة.. يخرج كل صباح مرتديا بذلة أنيقة ويحمل مظلة في يمناه وملفا أحمر. في يسراه, يسير على الجانب الأيمن للطريق, ولا يكلم أحدا تماما كالتلميذ المجتهد.. عمل الرجل موظفا دوليا, جاب العالم طولا وعرضا. وذات يوم ودون سابق إنذار وجد نفسه في الوزارة الأصل, ليس معه سوى ذكريات ومعطف جلدي وغليون وكلمات مهذبة..وبقايا من بقاياهم.. جارنا الآخر هو طبيب الأسنان الشهير "جان مليس" ننتظر عودته كل يوم لنرى طقوس دخوله الغريبة.. يتوقف هنيهة أمام المرآب لتفتح إحدى الخادمات, حتى إذا دخل جلس على مقاعد من خيزران في الفناء المرتب ترتيبا بديعا.. نرمقه بعيوننا الجائعة.. أحمل صديقي ليطل من فوق السور ويحملني فأنظر طعاما ملونا وكعكا واحتساءه الماء الأحمر بعد الأكل.. يتجشأ ويفعل أشياء أخرى ثم يتمدد علي مهد هزاز.. بعدما ينام نذهب إلى الزقاق الضيق.
خلف البيت نجد الماء الأحمر (هكذا كنا نسميه) قطرات حمراء في قاع الزجاجة ترمى خلف البيت كل يوم.. نتسابق لنشرب من ذلك الشراب الفرنسي, ونقهقه بعدها, ونتضارب بالأيدي ونسب بعضنا قبل أن نتوجه إلى لعبة "الحرب".
في لعبة الحرب كنا "المماليك" أنا ملك إلحي الشمالي ولكل جهة ملكها.. أما كيف أصبحت ملكا فلأن صديقي ذهب إلى أهله ليشرب ماء وتركني الآمرالناهي..لاحظت أنهم يحترمونني كالملك ففكرت في أنني لا اختلف عنه كثيرا وكنت يده اليمني فلم لاأكون الملك.. أقنعتهم بأن الملك كان يسبهم وأنا لن أفعل, وكان يأخذ منهم مصروف الجيب وانا لن أفعل, وكان يدخلهم في حروب غير مدروسة مع الجيران وانا لن أفعل..تهللت اساريرهم وقالوا وهم يرفعون السيوف والحراب: عاش الملك.. عندما رأيت صديقي عائدا يفرك عينيه ببراءة أشفقت عليه, فأرسلت له ابن أختي الذي أصبح ساعدي الأيمن وقال له: بعد ان وضع يده على مقبض سيفه: لم تعد ملكا فعد إلى بيتك ولن نعاقبك.. وارسلنا لوالدته نخبرها بأن ابنها سرق نقود بعض ابناء الحي وان الجميع يتوعدونه بالويل والثبور..وفعلا لم يكن الملك السابق امينا .. طلب الحراس طعاما فمنحتهم الاذن بالذهاب إلى بيوتهم وقت الغداء بعد أن استصدروا مني وعدا بعدم تبديلهم.. أشار على أحد الوزراء الذين كانوا مع الملك السابق بأن اقوم بإصلاحات وتغيير جذري للمؤسسة الفاسدة التي أرساها الملك السابق.. فعلت.. أشار علي بأن أمنع أصحاب صديقي السابق من العودة فعلت.. لكن تبين بعد أيام أن الأمر خطير على ملكي فعدلت عن هذا القرار لأن من شأنه إذا تم تحول ديمقراطي وآلت الأمور الى المعارضة و استقلت العدالة أن يفتح ملفات لا يعلم إلا الله أي ضرر ستلحق وبمن؟ في نفس اليوم أعدتهم, نعم أعدت أولئك الرجال الطيعين وتركت المعارضة مع أحلام أنا من صنعها بتوزيع وعود, كل واحد من قادتها سرها في نفسه وهذا ما كنت أريد.. مملكتي لي, والعسكر لي, والرعية مخدوعة, والمعارضة باقية لأنه لابد من معارضة من أجل "جان ميليس" هكذا كانت مملكتي وأنا طفل صغير لم أبلغ بعد العاشرة, لكن صدقوني لم أنس ما حييت تلك القعدة المريحة لم أنس سجود الحرس والحاجب.. لم أنس ذلك الشعور الذي ما زلت أحسه كلما التقيت أحد أفراد المملكة: "مرحبا مولاي الملك".. أكان أحدكم ينتظر مني التخلي عن الملك ببساطة والذهاب إلى مستقبل غامض أيما غموض!
لقد ضحيت بصديق العمر ولو لم أفلح لقطع رأسي.. أبعد هذا تنتظرون أن أتصرف تصرفا قد يحولني إلى مجرم كصديقي القديم.. أعتقد أنكم من العقل بحيث تفهمون..
بعد عقود أخذني الكبر من مملكة الصبية هذه ولولا الكبر لبقيت فيها مدى ما قبل الكبر..
موعدنا الصبح.

الاثنين، رمضان ٢٣، ١٤٢٧

"الزعيم "

عبد الله ولد سيد احمد هو الرئيس المقبل لموريتانيا .. لا أحد يعرفه ولا أحد سمع به, ولا التقاه ربما .. سيحاول الكثيرون استكناه حقيقة الرجل ومعرفة قبيلته وولايته .. لابد من معرفته, والتقائه قبل دخوله القصر, حيث لا يمكن الوصول إليه..
سيدي محمد هو الزعيم على طريقة مسرحية "الزعيم" ربما وجدوه, وربما مازالوا يبحثون عنه, لكن في العادة زعيم بالصناعة هو آخرمن يعلم بأنه سيكون الزعيم..
سيخرج قبل الرئاسيات بأسبوعين أو ثلاثة, وتتبعه عصائب المستقلين التي ستشكل أغلبية البرلمان .. الخطة التي لا بديل عنها ولامناص من تنفيذها, تقتضي أن يعلن الرجل - الذي لايعرفه احد- الترشح, فيتبعه من يتلقى الأوامر من ساسة هذا البلد .. ثم تعلن القبائل مبايعتها للرجل الذي سيبدو واضحا أنه "المناسب" .. النواب والشيوخ "العسكريون" سيقيمون الدنيا و لايقعدونها في قراهم وأريافهم من اجل إنجاح الرجل الذي يراد له النجاح.
أحزاب المعارضة التقليدية شيع وقبائل, وكل حزب بما لديهم من الأصوات فرحون, كل حزب بما حصل عليه من تركة "الرجل المريض" فرح مرتاح.. يصافح قائده تلك اليد الناعمة التي ما عرفت الشقاء والتعب, فيرتاح..كم تمني أن يأخذ من ولد الطايع رجاله,لكنه لم يفلح:رجال ولد الطايع هم الرجال, عطورهم باريسية, ولا يغسلون "دراريعهم" إلا لماما..وجوههم نضرة, والشاي في بيوتهم لا ينقطع...لديهم بيوت للأقنان, وبيت للمرابط, وآخر لأستاذ الدروس المسائية, ومخنث البيت, ثم الجرو..وفي المقابل من كان معي؟ معارض يخرج سيجارة بالية من جيب سترته, ويتحدث عن المبادئ بفم لم يعرف معجون الأسنان, وآخر يداوم في مقر الحزب فقط, لأنه لا عمل لديه..كم هم مملون هؤلاء البؤساء..الحمد لله أن جاءنا رجال التاريخ الذين حركوه في الماضي, وسيفعلون الشيئ نفسه في المستقبل..
أما البالون المجوف الذي سيجلس على "العرش" فلا يعرف إلا انه رئيس يتلقى الأوامر والقرارات, ليعلنها بصعوبة وألف مونتاج على شاشة التلفزيون والتلفزيون الموريتاني فقط .. لا مقابلات, لا تصريحات, وحتى لا زيارات رئاسية.. تدليك مريح في القصر, وجلسة في الحديقة مساء كل يوم .
أعزائي هذه نظرة تشاؤمية للواقع, لكن المعطيات التي لدينا عن تدخل ولد محمد فال وفتاه ولد عبد العزيز في خيارات بعض المرشحين تجعل الواقع أقتم مما يراه المتفائلون ..
ولد محمد فال قال إنه سيخرج من القصر إلى الأبد, لكنه لم يقل الشيء ذاته عن العسكريين الذين قادوا معه الانقلاب, ولن يتقاعدوا قبل سنوات, كما أن بعضهم يراه الجميع مستلذا بالسلطة مستمتعا بالنفوذ .. ثم إن الإشارة لأشخاص معينين بالترشح مستقلين, إشارة واضحة بأن المرحلة المقبلة مرحلة الطاعة المطلقة للمجلس العسكري, ورجال الطاعة المطلقة هم من استهدفوا بهذه الأوامر دون غيرهم من السياسيين.... حصار يفرض على الحزب الجمهوري جريمة لا يسكت عنها كما لم يسكت عن حصار أحزاب التغيير في العهد الماضي.
أرجو أن لا يكون الأمر كما أراه, وأن يكذب العسكريون الخارجون من عباءة ولد الطايع ما قاله البعض غداة الانقلاب من أننا "لن نجني من الشوك الثمر".
موعدنا الصبح .

الخميس، رمضان ١٩، ١٤٢٧


حوار جمعني الأسبوع الماضي بصحفي ألماني من أصل عربي أيان احتدام الجدل حول تصريحات البابا بينديكت الأخيرة..قال الرجل بأن ردة فعل المسلمين كانت سيئة ولا حضارية وأنها أكدت أن دين المسلمين دين عنف ودم...قلت له بأنني قد لا اتفق مع جلهم في طريقة الرد علي الرجل. لكن تجربتي القصيرة في الحياة علمتني ان اتوقع كل ردة فعل من طبيعة الفعل ذاته الا في حالة واحدة وهي ان يتعلق الفعل بمعتقد او دين..فهنا اتوقع كل شيئ. فمثلا بعد تصريحات الباباصرخت راهبة في وجه كاميرات الصحفيين"إن مت وانا اردد كلمات البابا التي قالها عن دين العرب أكون شهيدة".. لقد تحولت الكلمات المسيئة هذه بسبب ردة الفعل ربما الي معتقد جعل راهبة وديعة مستعدة للموت في حرب رأت انها اكتسبت صبغة القداسة..المرأة شحنت نفسها بالكراهية من الكلام الذي سمعته في حق رجل الدين الذي تعتنقه, مع ان المسلمين من غير العوام ظلوا يخاطبون البابا بلباقة وأدب..
توقعت كل شيئ من أناس وصف دينهم ونبيهم بأبشع الأوصاف,بل انني توقعت ان يصل أوار نار الحنق هذه الي الأبرياء حتي ممن لا يدينون بشيئ...لكنني اقترحت علي محاوري ان نناقش المسألة لنقيم موضوعيا الفعل وردة الفعل فقال: "إن دين المسلمين دين عنف وان محمد(اكتب الإسم بلا صلاة ولا تسليم لأنني ببساطة موقن بأنه يتحدث عن شخص آخر غير النبي صلي الله عليه وسلم) حارب الناس ليدخلوا في دينه كماأن المسلمين علي مر التاريخ اعتادوا قتل الأبرياء ولم يعملوا عقولهم في الأمور التي تحتاج الحصافة والعقل..
ذكرت زميلي الذي تربي في بيت ديني بالمشرق بأن المسلمين عذبوا في أرضهم وقتلوا بسبب معتقدهم, ثم لما فروا بدينهم عمم عليهم في كل انحاء المعمورة, غيرأن متدينا حبشيا آواهم بعد ان عرف صدق ماقالوا انطلاقا من احترامهم لنبي آخر هو عيسى عليه السلام..أذن لهم ان يقاتلوا بعد ان قوتلوا وظلموا ولم يؤذن لهم قبل ذلك ثم ذكرته بوصايا النبي صلي الله عليه وسلم لقادة الجيش والتي تقتضي الرفق حتي بالشجر..لقد اجتمعت أمم الأرض علي محاربة هذا المعتقد الجديد فقد رأي فيه الملوك السالب لملك أخذوه بالقوة كما رأي فيه الإقطاعيون والنبلاء ثورة تستهدف عظمتهم..أمن الوارد بعد كل هذا ان يجلس المسلمون في المدينة وينتظرون الإغارة عليهم.؟
المسلم هو ذلك الذي جعل المسيحيين واليهود وغيرهم يقيمون بأرضه بحرية مطلقة بل إنه وفر لهم الحماية والأمان..المسلم هو ذلك الذي حورب بعد ذلك باسم الصليب واحتلت أرضه... وفي أوج ضعفه وهزيمته اهدي العالم نظريات علمية تدرس اليوم في الجامعات الأوروبية والأمريكية علي انها تركة عربية..وأول مايقوله المحاضر في الرياضيات او الطب او الكيمياء إن المسلمين هم أكثر من اسهموا في هذه المواد وأثروها...
المشكلة ان صديقي وامثاله من المتحاملين علي الإسلام يعرفون كل هذه الحقائق لكن لأمرما يخفونهاعن انفسهم وعن من يستشيرونهم من معتدلي الغرب والباحثين عن سبيل نسلكه فنتفادي صدام الحضارات الذي لاحت بوادره في العقدين الأخيرين..ولعل أهم ما علينا القيام به للوصول الي هكذا سبيل هو ترتيب البيت من الداخل عندهم وعندنا حتي لا نفرز كلانا فقط من يستفيدون من تأجيج النار وربما أصنف صديقي-أستاذ في الحضارة الإسلامية وصحفي- أحد أكبرهم..
انوكشوط-موريتانيا

السبت، رمضان ٠٧، ١٤٢٧

وداعا كان صيدو


ربما لم أكن أتوقع رحيل كان صيدو بهذه السرعة .. ليس لأنني أرى الموت بعيدا عنه أو عن أي كائن اخر فكلنا له يوم لايبتسم بعده ولا يتحرك.. وإنما فقط لأن الرجل الذي غادرنا يوم امس كان احد رجال المرحلة .. قبل اسابيع حضرت إجتماعات للتنظيم الذي يترأسه .. من بين كل رفاقه في الدرب كان متفائلا ليس لانه أقتنع بسهولة, ولكن مجرد جلوس ابناء الوطن على ارض الوطن لنقاش مسالة الوطن كان شيئا أستعذبه الرجل .. يتحدث بمرح مع الجميع ويتجول في القرون الماضية فهذا إبن العالم الفلاني وهذا إبن البطل الفلاني, ويتحدث عن عادات القبيلة الفلانية والجهة الفلانية ومايذم عند اهل الضفة ومايستلطف عند غيرهم .. جولة سريعة ويدخل في صلب الموضوع " إن علينا كتنظيم يساري ان نترك لهم الغنيمة ونراقبهم فهذا دورنا , نحن لانمتهن السياسة ولا ياخذ احد منا راتبا عن عمله النضالي .. فقد ضحى جلنا بماله ووقته ولم يفكر في ان الحصاد يمكن ان يكون شيئا اخر غير العدالة و الحرية " .. هكذا كان في كل مرة , وفي كل مرة دائما كان ينظر الى جلسته فإذا هم موريتانيا : عربي , بربري , زنجي افريقي , حرطاني, فقير, غني, صحفي, شاعر, صانع تقليدي وفنان .. ثم يدور بعينه الراضية مرة اخرى ليملأها من هذا الخليط الذي كادت ان تمزقه سنوات الظلم.
عرفت الرجل في السنوات الاخيرة عندما إنضم الى تنظيم ضمير ومقاومة .. وقبلها كنت أقرأ له من بعيد ..
" عندما تعرضت قوميتي للظلم كنت في تنظيم يسعى لرفع هذا الظلم ومتى وقع الظلم على وطني برمته وجدت في " ضمير ومقاومة " الضمير والمقاومة".
انه احد أولئك الذين يجسدون الوحدة الوطنية الحقة , أحد المقتنعين بان قدر الموريتانيين ان يعيشوا أمة مميزة وحضارة جميلة على أديم أرض موريتانيا حتى اخر يوم في هذه الدنيا.. أحد أولئك : المختار ولد داداه .. حبيب ولد محفوظ .. وغيرهم قليل..
فإلى إبن "انتيكان" الأصيل رغم أنه قضى اكثر سنيه في المهجر .. إلى المناضل العظيم كان صيدو رسالتناهي كما كانت مذ عرفناك "احببناك في الوطن .. و للوطن"
اللاجئون سيعودون الى وطنهم وثروات هذه الأرض ستوزع على ساكنيها وستعم العدالة والحرية .. ستتكافأ الفرص في بلادك وسننعم بإستقرار حقيقي .. أليس هذا ماتريد؟
ثق أننا على الميثاق والعهد الذي قطعنا على انفسنا بحرية مطلقة كل الإطلاق .
رفاقك كما تركتهم سيحملون المشعل من بعدك ولن يتركوه للأرض, فعلى هذا تعاهدو وعلى هذا سيبقون.
عيونهم التي تدمع الآن لرحيلك, تراقب أيضا مايجرى في البلد وستقول لا
متى أراد الشعب قولها فعجز.
رحمك الله وأنزلك فسيح جناته

تحية النضال
بون - ألمانيا